کد مطلب:187335 شنبه 1 فروردين 1394 آمار بازدید:238

و سلاحه البکاء (31)
كما تشیر البوصلة الی قطب الشمال. كان هناك شی ء ما یتجه من بعید یشیر الی بقعة علی شطآن الفرات... الی منائر تنبعث من أعماق المیاه.. شی ء یشبه الروح تفصح عنه الحوادث كما تفصح الأرض عن سر البذار.

مضی التاریخ یشعل الحوادث هنا و هناك. الخیول تهز الأرض و تثیر الغبار.. تغیر علی المدن، فی العراقین و فی الحجاز.

فقد الانسان العربی طمأنینته.. و رحل زمن السلام، و هاجرت الروح بعیدا.

و عندما تغیب الروح، تنطفئ الجذوة المشتعلة التی تضبئ للانسان طریقه فی الحیاة.

بدت الكعبة ذلك العام كسفینة وسط أمواج بشریة متدافعة.

تمتم «زین العابدین» بحزن:

- ما أكثر الضجیج و أقل الحجیج..

وقف سعید بن المسیب وسط حشود القراء ینتظرون رجلا



[ صفحه 117]



یدعوه الناس بألقاب؛ فاذا قیل «ذو الثفنات» أو «سید العابدین» أو «زین العابدین» أو «السجاد» أو «الزكی» أو «الأمین» فان الأذهان تنصرف الی شاب فی الثلاثین من عمره.. علیه سیماء النبوات و قد رسم الحزن لوحة فی عینیه تموج فیها غیوم مخزونة بالمطر.

- ها هو قادم.

هتف أحد القراء و قد أشار الی جهة تفضی منها قوافل الحجیج.

ورنت الأبصار الی نبع الطمأنینة فی دنیا كل ما فیها یدور بعنف.

تهفو له القلوب الحائرة و هی تبحث عن طریق السماء بعدما تشابهت علیهم السبل.

انطلق الركب باتجاه الشمال الی حیث هاجر محمد من قبل؛ سفن الصحراء تطوی المسافات الزاخرة بالرمال.

مالت الشمس نحو المغیب، و ألقت السفن مراسیها لیلتقط المسافرون أنفاسهم.

ثمة شجیرات تحیط بغدیر ماء؛ و مضارب لخیام بعیدة، و نسوة یحملن جرار الماء و یتجهن صوب الخیام.

غابت الشمس وراء كثبان الرمال؛ و بدت ذری التلال متقدة بضوء یفور حمرة.

شمر «زین العابدین» عن مرفقیه و راحت میاه الوضوء تنثال علی وجه مضیئ فتتساقط حباتها محدثة نغما هادئا.

اتجه حفید النبی بكلیته الی البیت المعمور و كبر للصلاة. بدا



[ صفحه 118]



كتمثال منحوت بخشوع ما خلا نسمات كانت تحرك ثیابه البیضاء برفق.

خیم صمت مهیب لكأن روح الانسان و هی تتصل بسبب الی السماء تهیمن علی كل ما حولها و من حولها من شجر و حجر و آدمیین.

هوی الكائن الأبیض ساجدا للحقیقة الوحیدة؛ كحمامة تبشر بالسلام.

انبعثت كلمات أخاذة لكأنها نهر یتدفق من جنات الفردوس، تنساب هادئة معبرة تمسح علی القلوب فتهبها السكینة و علی الرمال فتغمرها خشوعا و جلالا.

النبع المتدفق یسحر الكائنات بتسبیح الانسان:

سبحانك اللهم و حنانیك

سبحانك اللهم و تعالیت

سبحانك اللهم و العز ازارك

سبحانك اللهم و العظمة رداؤك

سبحانك اللهم و الكبریاء سلطانك

سبحانك من عظیم ما أعظمك

سبحانك سبحت فی الأعلی... تسمع و تری ما تحت الثری.

سبحانك أنت شاهد كل نجوی

سبحانك موضع كل شكوی

سبحانك حاضر كل ملأ



[ صفحه 119]



سبحانك عظیم الرجاء

سبحانك تری ما فی قعر الماء

سبحانك تسمع أنفاس الحیتان فی قعور البحار

سبحانك تعلم وزن السموات

سبحانك تعلم وزن الأرضین

سبحانك تعلم وزن الشمس و القمر

سبحانك تعلم وزن الظلمة و النور

سبحانك تعلم وزن الفی ء و الهواء

سبحانك تعلم وزن الریح كم هی من مثقال ذرة

سبحانك قدوس قدوس قدوس

سبحانك عجبا من عرفك كیف لا یخافك

سبحانك اللهم و بحمدك

سبحان الله العلی العظیم

أمر عجیب! ماذا حدث؟ ما هذا الدوی الذی تردده الكائنات لكأن صوت الانسان قد فجر فی مكنوناتها الأسرار كما تنفجر من الصخر ینابیع الحیاة فی لحظة تماس مع الغیب.

الأشواك و ذرات الرمال و الشجیرات المتناثرة هنا و هناك تردد بصوت یشبه دوی النحل فی نخاریبها: سبحان الله.. سبحان الله.

مرت لحظات مشحونة سمع فیها أبناء آدم و قد عادوا من الحج الأكبر تسبیح الكائنات.



[ صفحه 120]



فغرت الأفواه دهشة و انعقدت الألسن فی اللحظة التی یلج فیها ابن آدم عالم الملكوت.

رفع الذی عنده علم الكتاب رأسه من الأرض و التفت الی ابن المسیب:

- أفزعت یا سعید؟

أجاب سعید و قد ثاب الی رشده:

- نعم یابن رسول الله...

- هذا التسبیح الأعظم..

سكت هنیهة ثم أردف:

- حدثنی أبی عن جدی رسول الله لا تبقی الذنوب مع هذا التسبیح، و ان الله جل جلاله لما خلق جبریل ألهمه هذا التسبیح و هو اسم الله الأكبر.

عادت الأشیاء الی طبیعتها و آب الانسان الی عالمه حیث الأشجار صامتة و ذرات الرمال غافیة منذ آلاف السنین؛ و بقی الانسان یتذكر لحظة قدسیة ولج فیها الملكوت ثم عاد الی طبیعته مرة اخری.



[ صفحه 121]